Aperçu des sections

    • المقياس: الأدب العربي والاستشراق

      السنة الثالثة

      تخصص: أدب عربي

      المعامل 01

      الأرصدة 01

      الحجم الساعي :1.30

      طبيعة المادة: محاضرة

      يهدف المقياس إلى الإحاطة بتاريخ الاستشراق الأوروبي، وعلاقته التاريخية والمركبة بالثقافة العربية والإسلامية. فقد كانت مساهمة الاستشراق، على اختلاف مدارسه، مؤثرة، سواء بالسلب أو بالإيجاب، على الثقافة الإسلامية والعربية بحكم اهتمامه البالغ بالحضارة الإسلامية ومصادرها مثل القرآن الكريم والسنة ومختلف مناحي المعرفة والحياة، وكذا الاهتمام الذي خصه بالأدب العربي منذ الجاهلية إلى غاية عصر النهضة. سيحاول المقياس أن يكشف عن مساهمة المستشرقين في دراسة وتفسير وفهم مصادر الثقافة الإسلامية والعربية، وإعادة كتابة تاريخ هذه الثقافة وآدابها وفق مناهج علمية. ولعل مناهج المستشرقين كانت أحد منابع التفكير النهضوي الذي قاد الكثير من رواد النهضة العربية إلى تجديد مناهج دراسة الثقافة العربية وآدابها بالأخذ بمناهج المستشرقين. لكن أيضا يحاول أن يكشف عن دور الاستشراق في تطور الحركة الاستعمارية الحديثة. يهدف المقياس إلى تقديم الاستشراق، بحكم طبيعته المعرفية الصعبة والجافة، بأسلوب بسيط وبيداغوجي لأجل تهيئة الطالب للاقتراب أكثر من المصادر الاستشراقية بالقراءة والبحث.

    • ملاحظة:

      بخصوص مقياس الأدب العربي والاستشراق فهو ينتمي إلى نسق المحاضرات دون تطبيقات،، الأمر الذي لا يستدعي إجراء امتحانات تقييمية للطلبة عبر هذه المنصة.

  • محاضرات الأدب العربي والاستشراق

  • المحاضرة الأولى

  • المحاضرة الثانية

    • الاستشراق اصطلاحا: الاستشراق بوصفه حقلا معرفيا

      ازدهرت في القرنين الثامن العشر والتاسع عشر ظاهرة هجرة المغامرين والرحالة الأوروبيين إلى الشرق بما يشبه هوساً عاماً، وكانت الوجهة ولايات الإمبراطورية العثمانية وبلدان المغرب وبلاد الشام. وساهمت الظاهرة في تطور حقل "الاستشراق"، حيث كان الرحالة على اختلاف مجالاتهم واهتماماتهم يكتبون تقاريرا حول ما عايشوه ورأوه في هذه البلدان، وقد شكّلت هذه التقارير لاحقا مادة ثرية للأكاديميين لدراستها وتحليلها لاستخلاص الأفكار منها، مما كان يمد القارئ الأوروبي بحقائق يجهلها عن عالم ظل مجهولا وغامضا، لكن أيضا كان يشبع فضوله، خاصة وأنّ الشرق اقترن في المخيلة الأوروبية بالخرافات والأساطير، ((وبذلك يعبّر الاستشراق عن ظاهرة ثقافية ومعرفية تغذيها عواطف اكتشاف ذلك المجهول الشرقي (المحبب) والمحاط بالألغاز التي لا تفسر بسهولة، فالشرق عبارة عن مجهول في النفس الأوروبية المتعطشة لاكتشاف تلك البقعة وجعلها مشروع بحث علم مستنداً على دوافع سياسية وعلمية واقتصادية وثقافية وتبعية. فراحت عيون الغربيين تتسع أكثر فأكثر على ثروات الشرق، ومغامرين عبر المدن والصحارى والجبال والسواحل قريبة وبعيدة عن عواصم الشرق)). (الهلواش، 1440 هـ، صفحة 10، 11)

      فالاستشراق ظاهرة ثقافية أوروبية – غربية تعنى بدراسة الشرق تاريخا وحضارة وثقافة في كل مناحيه، وكان من التيارات الأكثر تأثيرا في حقول المعرفة الإنسانية في أوروبا القرن التاسع عشر، وقد ساهم بشكل كبير في المشروع التوسعي والاستعماري، بالنظر إلى المادة المعرفية التي كان يوفّرها عن الشرق مما سهّل في السيطرة عليه. لقد كشف الاستشراق عن دور المعرفة في الحركة الاستعمارية الحديثة.

      تتفق أغلب التعريفات بأنّ الاستشراق هو دراسة الشرق والشرقيين من قبل باحثين أوروبيين، مركزا على التاريخ والجغرافيا والعادات والتقاليد واللغات والآداب والأديان وأساليب الحياة...إلخ وقد حظي الدين الإسلامي بحصة الأسد من اهتمامات المستشرقين، ويرجع هذا الاهتمام حسب بعض المصادر إلى البدايات الأولى لظهور الإسلام، قبل أن يتطور هذا الاهتمام إلى حقل معرفي متكامل الأركان.

      الاستشراق هو أيضا مجموعة من التقاليد الاكاديمية، ومجموعة من المعارف التي انتظمت ((في نسق له مقدمات ونتائج ويعمل بتقنيات ومناهج مخصوصة، ولهذه المعرفة تصورات يزود بها المستشرق مجتمعه)). (حميش، 2011، صفحة 17)

        تاريخ النشأة: سرد الفرضيات

       وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أنّ تاريخ بداية الاستشراق يختلف من مصدر إلى آخر، صحيح أن تطوره الحقيقي بما يشبه النضح والاكتمال كان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلاّ أنّ الحركة الاستشراقية نشطت قبل هذين القرنين بقرون بعيدة. وتُرجع بعض المصادر التاريخية ظهور كلمة "المستشرق" إلى القرن السابع ميلادي، وهو الاسم الذي أطلق على أحد أعضاء الكنيسة اليونانية، وهناك من يذهب إلى أن يوحنا الدمشقي 748م John of Damascus هو مؤسس الاستشراق، والذي كان مقربا من الخليفة "يزيد بن معاوية"، وما عُرف عنه أنه ادعى بأنّ أصول الإسلام هو ديانة وثنية ظهرت في شبه الجزيرة العربية، وأنّ الكعبة في مكة هي مجرد وثن، وأن النبي محمد "ص" رجل غير متدين، كما أنه ادعى أنّ الرسول "ص" أخذ تعاليمه الدينية من كاهن آريوسي... تعلم على يديه.

      وهناك مصادر أخرى تُرجع بداية الاستشراق إلى مرحلة فتح المسلمين لشبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا) وانتشارهم في جنوب إيطاليا وصقيلية، وكان لحضور الإسلام الأثر البالغ الذي دفع بالأوروبيين إلى الاقتراب أكثر من هذا الدين بدراسة أحوال المسلمين. ويجدر بالذكر بأنّ مرحلة التوسع الإسلامي في الأراضي الأوروبية تزامن وانحطاط الحضارة الأوروبية التي كانت غارقة في ظلمات الجهل، وليس غريبا أن يقف الأوروبيون منبهرين بما وصلت إليه الحضارة الإسلامية، آنذاك، من رقي حضاري وتطور معرفي وعلمي وأدبي لا مثيل له، وهو الذي انعكس لاحقا في تطور الحضارة الأندلسية.

       لقد انشغل القساوسة بمعرفة سر قوة هذه الحضارة الإسلامية، ما دفعهم إلى إرسال بعض الرهبان إلى الأندلس، ليأخذوا العلم على يد العلماء المسلمين، فتعلموا اللغة العربية، وترجموا معاني القرآن الكريم، وأصابوا علوما كثيرة في الطب والرياضيات والفلسفة. وتذكر المصادر التاريخية أنّ من بين أوائل هؤلاء الرهبان الذين تعلموا في المعاهد الأندلسية الراهب الفرنسي " جربر دي أورالياك" الذي سينتخب لاحقا بابا لكنيسة روما عام 999م. كما أنه في هذه الفترة أنشأ "رايموندو الأول" الذي هو رئيس أساقفة طليطلة، مكتب المترجمين عام 1130م، وعن طريق هذا المكتب تُرجمت الكثير من الكتب العربية والإسلامية في ميدان الطب والفلك والرياضيات والكيمياء والطبيعة وعلم النفس والمنطق والسياسة. (مصطفى، صفحة 24 بتصرف)

      أما بالنسبة إلى المستشرق الألماني "رودي بارت" فإنّ بداية الاستشراق كانت مع ظهور أولى الدراسات العربية والإسلامية في القرن الثاني عشر، على إثر ترجمة معاني القرآن الكريم لأول مرة إلى اللغة اللاتينية، بأمر من الأب "بيتروسفنيرابيليس" وكان ذلك في إسبانيا. (مصطفى، صفحة 13 بتصرف)

      واجتهد البعض الآخر في تحديد تاريخ النشأة، محاولين تحديد التاريخ تحديدا علميا، فأرجعوا نشأته إلى واقعة علمية على غاية كبيرة من الأهمية، وهي قرار المجمع الكنسي بفيينا بإنشاء كراسي للغات العبرية والعربية والسريانية في روما وذلك في عامي (1311 و 1312)، بهدف دراسة اللغة العربية وعلوم المسلمين، وبفضل هذا القرار نشطت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية. (مصطفى، صفحة 14 بتصرف)

      أمّا عن أول استعمال لكلمة (مستشرق) فيعود حسب "أحمد سمايلوفيتش" إلى سنة 1630 م، وفي سنة 1691 م وصف "أنتوني وود" "صموئيل كلارك" بأنه (استشراقي نابه)، وكان يقصد أنه كان يعرف بعض اللغات الشرقية)). (سمايلوفتش، 1998، صفحة 22)

      وحسب "رودنسون" فإنّ لفظة "مستشرق" ظهرت في اللغة الإنجليزية حوالي عام 1779، كما دخلت كلمة الاستشراق على معجم الأكاديمية الفرنسية في سنة 1838. (سمايلوفتش، 1998، صفحة 24، 25)

       من هنا انبثق مفهوم "المستشرق" الذي هو ((كل من تجرد عن أهل الغرب لدراسة اللغات الشرقية ولتقصي آدابها للتعرف على أشياء أمة من الأمم وخاصة الإسلامية من حيث أخلاقها وعاداتها وتاريخها وأديانها)). (الهلواش، 1440 هـ، صفحة 20) وهو أيضا الذي يطلب العلم بالشرق.

      ومن بين الفرضيات الأخرى أنّ الاستشراق كان نتيجة للتصادم التاريخي الذي حدث بين المسلمين والمسيحيين في إطار ما يسمى بالحروب الصليبية. وكانت هذه الحروب قد مهدت الطريق للمسيحيين للاهتمام أكثر بمعرفة الدين الإسلامي بهدف الصدّ له.

      الاستشراق وبداية الاهتمام بالإسلام:

      لا يُمكن فصل الاستشراق عن الإسلام، هذا إذا لم نقل بأنّه في وجه من وجوهه هو حقل معرفي غربي يعنى بدراسة الإسلام والمسلمين؛ لذا، فإنّ رصد تطوره عبر التاريخ هو تأريخ مواز لعلاقة أوروبا بهذا الدين وبالحضارة الإسلامية التي وصلت أنوارها إلى أوروبا، وأنشأت هناك قلعة من قلاع الحضارة التي مازالت إلى اليوم تمثل حالة حضارية استثنائية. غير أنّ تاريخ العلاقة بين أوروبا والإسلام كان في أغلبه هو تاريخ الصدامات$ والصراعات، بدأت في شكل حروب صليبية، وانتهت في شكل استعمار أوروبي في القرون الحديثة.

      على الرغم من صعوبة تحديد التاريخ الدقيق لبداية اهتمام أوروبا بالإسلام، إلاّ أنّ الكثير من المصادر ذهبت إلى أنّ أولى المؤلفات الاستشراقية لم تكن إلا هجوما على الإسلام. لهذا يذهب البعض إلى التأريخ لبداية العمل الاستشراقي كان مع الحروب الصليبية، وكان هذا العمل خاضع لأحقاد رجالات الدين؛ ففي القرن الثاني عشر الميلادي ظهرت أولى المؤلفات الاستشراقية التي تناولت الإسلام والنبي محمد (ص)، والتي كانت في أغلبها مجرد تحامل ضد هذا الدين، ومن أشهر المؤلّفين آنذاك "بيتر فينيرابل" الذي تحول فيما بعد إلى مرجع لكتّاب العصور الوسطى الذي تحاملوا على الإسلام. (الغزالي، 2008، صفحة 24 بتصرف)

      لقد أدرك رجالات الدين المسيحي المركز الذي يحظى به القرآن الكريم الكتاب المقدس للمسلمين في فهم هذا الدين، وقد أنجزت أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللاتينية عام 1143 م، لكن الترجمة ظلت حكرا على بعض رجال الكنيسة مخافة أن يقع هذا الكتاب بين عموم الناس فيؤثر عليهم، ولم تنشر هذه الترجمة إلا بعد أربعة قرون. وبعدها توالت الترجمات، وتعد ترجمة "مراتشي" والتي نشرت عام 1698 من أهم الترجمات بالنظر إلى اعتمادها على الأصل العربي. ويمكن أيضا الإشارة إلى الترجمة الإنجليزية التي أنجزها "جورج سيل"، والتي نشرت عام 1734م، وأعيد طبعها أكثر من 26 مرة. وما ميز هذه الترجمة هي المقدمة التمهيدية التي تستعرض تاريخ العرب قبل الإسلام إلى غاية ظهور الدين الجديد.

      لقد ساهمت هذه الترجمات في تعريف الباحث والقارئ الأوروبي بمضمون القرآن الكريم، كما أنها وفرت للمستشرقين أفقا للتفكير وطرح الأسئلة التي تخص القرآن وعلومه، ومصادره وترتيبه، وتعدد القراءات.

      ويمكن من باب التمثيل ذكر أهم المستشرقين الذين تخصصوا في دراسة القرآن؛ وأوّل الذين تخصصوا في هذا الحقل المستشرق الفرنسي "بوتيه" (1800 – 1883) والذي ركزت بحوثه على تأثير القرآن في معرفة الديانات السابقة، والظروف التي أحاطت بنزوله وغاياته. كما نذكر المستشرق الألماني "جوستاف فايل" (1808 – 1889) الذي ألف كتابا بعنوان (مدخل تأريخي نقدي إلى القرآن). كما كانت مساهمات الألماني الآخر "تيودور نولدكه" (1836 – 1930) كبيرة في هذا الحقل، فألف عددا مهما من الكتب، لعل أهمها (نشوء وتركيب السور القرآنية). (الغزالي، 2008، صفحة يُنظر 32)

      أما في القرن العشرين، فنجد المستشرق الفرنسي "ريجيس بلاشير" صاحب كتاب (القرآن. نزوله، تدوينه، ترجمته وتأثيره)، و(المدخل إلى القرآن).

      الاستشراق: تحوّل المعرفة إلى نظام لإعادة إختلاق الشرق:

      لقد أشرنا إلى أنّ الاستشراق هو المعرفة الغربية عن الشرق، وهو التعريف الشائع الذي اكتسب الشرعية المعرفية في مختلف المصادر الاستشراقية، لكن هذا التعريف يطرح معضلات معرفية كبرى، لعل أهمها: مدى موضوعية هذه المعرفة.

      لم يعبّر الاستشراق، تماما، عن الاهتمامات العلمية الغربية عن الشرق، لكنه عبّر كذلك عن مخاوفه ورغباته ومخياله حول موضوع يبدو أنّه يقف في الحدود الملتبسة بين الموضوعي والذاتي، وبين الواقع والرغبات، وبين الحقيقة والخيال؛ وبالنظر إلى أهدافه، لم يخل تاريخ الاستشراق من النزعة الاستعلائية التي ميزت الذات الأوروبية اتجاه الآخر الغريب والبعيد، لذا، لم يكن الشرق الذي هو موضوع الاستشراق موضوعاً طبيعيا بقدر ما هو موضوع جرى اصطناعه، بمعنى آخر، جرى إعادة تشكيله بما يتطابق مع النزوع المركزي، وبما ينسجم مع الرغبات والخيالات التي انطبعت في المخيلة الأوروبية عنه. إنّ الشرق بهذا المعنى ((هو موجز مختصر ... متغير غامض، شيء يتطابق مع ما يرغب الكاتب، او المدون أو المراقب المفترض، قوله عنه في التو واللحظة)). (ساردار، 2012، صفحة 39، 40)

      لقد اُعتبر القرن الـ19 قرن الاستشراق بامتياز، وتزامن ذلك مع انتشار المذهب الرومانسي وتزايد الاهتمام بالشرق من طرف فنانين تشكيليين وأدباء وفلاسفة مرموقين، فظهر ما يسمى بالاستشراق الفني الذي لم يكن أقل شأنا من الاستشراق المعرفي من حيث دوره الفعال في صنع صورة خصوصية عن الشرق.

      وهناك أسباب كثيرة تفسّر اهتمام الرومانسيين بالشرق منها الرغبة في البحث عن تجارب جديدة، والمغامرة في المجهول، فهاهو الشاعر الفرنسي "أرتو رامبو" يصف الشرق بالحكمة الأولى الخالدة"، أما "شليجل" فإنّه يمكن العثور في الشرق على "الرومانسية العليا"...إلخ

  • المحاضرة الثالثة

    • المحاضرة رقم 03

      مدارس الاستشراق

      1 ) – المدرسة الفرنسية:

      هي من أبرز وأعرق المدارس الاستشراقية؛ فقد كانت فرنسا منذ العصور الوسطى تتمتع بمكانة هامة في أوروبا، وكانت باريس تمثّل "مدرسة للاهوت" ما جعلها يُطلق عليها اسم " مدينة العلوم العليا".

      لقد كان اهتمامها بالشرق، وبالعالم الإسلامي تحديدا، مبكّرا جدا، وعلى الرغم من صعوبة تحديد التاريخ الدقيق لبداية هذه العلاقة، إلاّ أنّ الكثير من المصادر التاريخية اتفقت على أنّ الفرنسيين كانوا من الأوروبيين الأوائل الذين اتصلوا بالعالم الإسلامي، واهتموا به بالبحث والدراسة وبإنشاء كراسي في جامعاتها تعنى بدراسة اللغة العربية والدين الإسلامي والحضارة الإسلامية ككل. وقد اشتهرت هذه المدرسة بأسماء كبيرة لمستشرقين تخصصوا في دراسة الحضارة الإسلامية في جميع مناحيها.

      وبغض النظر عن أهداف الاستشراق الفرنسي، والذي اقترن تاريخيا بالحركة الاستعمارية، إلا أنه ترك الآلاف من الدراسات والمؤلفات والترجمات التي شكلت اليوم إرثا معرفيا، أمدّ الآلة الاستعمارية بالطاقة الكافية لتحقيق مشاريعها.

      العلاقات التاريخية بين فرنسا والشرق الإسلامي:

      يذهب "أحمد نصري" في كتابه (آراء المستشرقين الفرنسيين في القرآن الكريم ) إلى أنّ بداية الاتصال بين الفرنسيين والمسلمين تعود إلى واقعة "بلاط الشهداء" أو ما يسمى أيضا بـ"معركة بواتييه"، حيث وصلت الجيوش الإسلامية إلى جنوب فرنسا بقيادة "عبد الرحمان الغافقي"، فتصادم مع الجيوش الفرنسية بقيادة "شارل مارتل". (نصري، 2009، صفحة ص18)

      كما أنّ العلاقة بين الفرنسيين توطدت في الخلافة العباسية، حيث كان الخليفة "هارون الرشيد" يتبادل الهدايا مع ملك فرنسا "شارلمان".

      ثم جاء دور "الحروب الصليبية"، حيث كان للفرنسيين الدور البارز فيها، خاصة وأنّ فرنسا كانت قد احتضنت أوّل مؤتمر للصليبيين عام 1095م، لما كان يتمتع به الفرنسيون من تمسك بالعقيدة المسيحية، وبالبسالة في الحروب.

      غير أنّ الحروب لم تكن ناجعة دائماً لفرض السيطرة أو الحد من خطر الآخر، فالمعرفة كانت أحد أقوى الأسلحة التي تفطن لها الفرنسيون باكرا؛ فلا يمكن إيقاف زحف هذه الحضارة الإسلامية إلا بدراستها وفهم منابع قوتها.

      الاستشراق الفرنسي:

      كانت مساهمة الفرنسيين كبيرة في حقل الاستشراق؛ ولقد لعب ملوكهم دورا محوريا في التشجيع على دراسة الشرق، ومن بينهم الملك " فرانسوا الأول" الذي تمثلت مساهمته في تأسيس معهد فرنسا عام 1530م.

      ونظير هذا الاهتمام أنشئت العديد من كراسي الاستشراق، والمعاهد والجامعات، كما نشطت حركة جمع المخطوطات والخرائط والكتب العربية؛ فمكتبة باريس لوحدها كانت تضم حوالي سبعة آلاف مخطوط عربي.

      في عام 1795، أي بعد الثورة الفرنسية أُنشئت مدرسة اللغات الشرقية، وكانت اللغة العربية من بين اللغات التي تُدرّس فيه، وكان التعليم في أساسه يحظى به القناصلة ورجال السياسة الذين كانوا سيرسلون إلى مهام سياسية في العالم العربي، وازداد الاهتمام بهذه اللغة بعد احتلال الجزائر عام 1830 وتونس عام 1881م. (نصري، 2009، صفحة 26 بتصرف)

      الأعلام:

      بوستيل: (1505 – 1581): عُرف عنه اتقانه للعديد من اللغات الشرقية، درس اللغة العربية في فيينا، وكتب عن قواعد اللغة العربية، وعن التوافق بين القرآن والإنجيل، وعن عادات وشريعة المسلمين.

      دي ساسي: (1758 – 1838): كان له الفضل في إعادة مجد فرنسا الاستشراقي، وهناك من اعتبره البداية الحقيقية للاستشراق الحديث، لأنه أخضع الاستشراق للمناهج. تخرّج علي يديه المترجمين الذين رافقوا بونابرت في حملته على مصر، كما كان أستاذا لشاموبليون مكتشف "حجر الرشيد". (نصري، 2009، صفحة 28 بتصرف)

      كان مكلفا بالمخطوطات الشرقية في مكتبة باريس الوطنية، كما كتب عن العرب القدماء، اهتم بكتب القزويني، كما كتب عن تاريخ مصر، وكان مؤسسا للجمعية الأسيوية. (النبهان، 2012، صفحة 23 بتصرف)

      كاترمير (1782 – 1838): كان من تلاميذ دي ساسي، ورئيسا لتحرير المجلة الأسيوية. تخصص في دراسة الإسلام، وترجم كتاب " السلوك لمعرفة الملوك" للمقريزي. كما ترجم بعض المختارات من مقدمة ابن خلدون. (النبهان، 2012، صفحة 28 بتصرف)

      فانيان (1931 - ): تخصص في الفقه المالكي. ترجم العديد من الكتب العربية، كما كتب عن الزواج في الإسلام، وعن مفهوم الجهاد في الفقه المالكي.

      لويس ماسينون: (1883 – 1962): كانت تجمعه علاقات وطيدة بالعالم العربي والإسلامي، وعُرف عنه مواقفه الموضوعية والمنصفة عن الإسلام. أعدّ رسالة الدكتوراه عن "آلام الحلاج" وهو أحد المتصوفة المسلمين، فتخصص في التصوف الإسلامي. تعلم في جامع الأزهر، فاتبع مناهج الأزهريين في التدريس والإلقاء، حتى أنه كان يرتدي ملابسهم. فكانت أول صلته بمصر لما عيّن عضوا في المعهد الفرنسي للآثار الشرقية عام 1906م. في نفس السنة ظهر له أول بحث مهم له بعنوان "لوحة جغرافية للمغرب في السنوات الخمس عشرة الأولى من القرن السادس عشر، تبعا لليون الإفريقي". (بدوي، 1993، صفحة 528 بتصرف) .

      في عام 1908 سيكتشف أشعار "فريد الدين العطار" الشاعر الفارسي العظيم، تدور حول "مصرع الحلاج"، فتأثر بقصة هذا المتصوف، الأمر الذي أقنعه بتكريس دراسة عنه. كانت من اهتمامات ماسينون كذلك علم الآثار، ففي عام 1907م عهدت إليه مهمة القيام بأبحاث في الآثار في العراق، فأثرت هذه الرحلة تجربته المعرفية حول الثقافة الإسلامية في العراق، وانتهت رحلته باكتشاف قصر الأخيضر في ربيع 1908م. ووثق رحلته في كتاب ضخم بعنوان " بعثة أثرية في العراق".

      لنعد إلى علاقته بالحلاج، فقد ألف أول دراساته بعنوان " عذاب الحلاج والطريقة الحلاجية"، ثم "الحلاج، الشبح المصلوب والشيطان عند اليزيدية". (بدوي، 1993، صفحة 531 بتصرف)

      في عام 1910 سيكلف بتقديم دروس في الجامعة المصرية القديمة، فألقى أربعين محاضرة على طلابها، وكان من بينهم "طه حسين"، وكانت تدور حول "تاريخ المذاهب الفلسفية في الإسلام".

      كانت رسالته التي كتبها عن الحلاج حدثا ضخماً في تاريخ دراسة التصوف الإسلامي. يقول عنها "عبد الرحمان بدوي": ((فهي دراسة حافلة لكل التيارات الصوفية والكلامية والفلسفية والدينية التي أثرت ومهدت لظهوره وعاصرت رسالته الصوفية، وهذا الذي يفسر ضخامتها [...] ومن هنا كانت كنزا زاخرا بمعلومات مفيدة جدا وآراء سديدة أصيلة في نواح عديدة من الحياة الروحية والدينية والعقلية للإسلام، وإنها لشاهد ضخم يكفي وحده لتخليد ماسينون في عالم البحث العلمي والتاريخي.)) (بدوي، 1993، صفحة 532)

      أما الرسالة الثانية فكانت بعنوان "بحث في نشأة المصطلح الفني في التصوف الإسلامي"، استعرض فيها نشأة التصوف الإسلامي منذ عهد الرسول (ص) حتى الحلاج.

      تولى ماسينون تحرير "مجلة العالم الإسلامي" التي تحولت فيما بعد إلى مجلة "الدراسات الإسلامية".

      لم يتوقف اهتمامه بالحلاج. فأصدر عام 1931 "ديوان الحلاج"، وتوالت الدراسات والترجمات حول هذا المتصوف. ولو أن ذلك لم يصرفه عن الاهتمام بشخصيات صوفية أخرى، فكتب أيضا " ابن سبعين والنقد النفسي"، كما كتب عن شخصية الصحابي "سلمان باك" بتأثير من رحلته إلى العراق بعنوان " سلمان باك والبواكير الروحية للإسلام الإيراني".

      كما اهتم بقصة "أهل الكهف"، حيث ألقى عنهم محاضرة في ملتقى المستشرقين المنعقد في بروكسل عام 1938م.

      ريجي بلاشير: (1900 - 1973): كان والده موظفا بسيطا في الإدارة الفرنسية في مراكش. تعلم في مدرسة فرنسية بالدار البيضاء بالمغرب. تحصل على الليسانس من جامعة الجزائر علم 1922م. في عام 1936م حصل على دكتوراه الدولة برسالتين: الأولى خصصها لشعر أبو الطيب المتنبي، والثانية ترجمة لكتاب "طبقات الأمم" لصاعد الأندلسي.

      بعدها عُيّن أستاذا للغة العربية الفصحى في "المدرسة الوطنية للغات الشرقية" في باريس.  من أهم مؤلفاته: "تاريخ الأدب العربي منذ البداية حتى نهاية القرن الخامس عشر". ظهر منه ثلاث أجزاء ولم يستكمل البقية بسبب وفاته. أيضا ترجمة "القرآن" إلى اللغة الفرنسية، وقد رتب القرآن في هذه الترجمة وفقا لما ظنه أنه ترتيب نزول السور والآيات، قبل أن يعود إلى الترتيب الأصلي عام 1957م. (بدوي، 1993، صفحة 127 بتصرف)

      أعمال الاستشراق الفرنسي:

      على الرغم من أننا قد أشرنا سابقا إلى بعض مؤلفات المستشرقين الفرنسيين الذين ورد ذكرهم أعلاه، فلابأس أن نواصل في رصد أعمالهم الأخرى؛ إذ كانت مساهمة الفرنسيين واضحة في "علم الآثار"؛ ففي عام 1843 قصد "أرنو"، وهو صيدلي فرنسي، اليمن لأجل بحوث أثرية، ليتكشف هناك حوالي ستة وخمسين نقشا قديما في مدينة "الصنعاء".

      وبسبب نشاط علم الآثار، تأسست الكثير من المعاهد المتخصصة، مثل "المعهد الفرنسي للآثار الشرقية" بالقاهرة عام 1880م. وكان لمصر النصيب الأكبر من اهتمامات علماء الآثار الذين أغرتهم الحضارة الفرعونية القديمة، فيكفي أنّ الباحث الفرنسي "شامبليون" هو من فكّ رموز الكتابة الهيروغليفية، وذلك سنة 1882م.

      أما في الجهة الغربية، فقد أنشأ الفرنسيون معاهدا ومدارسا، مثل معهد قرطاجنة في تونس عام 1895م، و"مدرسة الآداب العالية" في الجزائر عام 1881م، والتي تحولت لاحقا إلى "جامعة الجزائر" عام 1909م.

      أما في ميدان التأليف والترجمة، فيمكن أن نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر، ترجمة معاني القرآن الكريم التي أنجزها "دي ريور" عام 1647م، ثم رتجمة "سافاري" عام 1783م، وترجمة "كازيمرسكي" عام 1840م.

      ألف المستشرقون الفرنسيون كتبا كثيرة حول القرآن الكريم، مثل كتاب " توافق القرآن والإنجيل" لبوستيل عام 1543م. وكتاب " سورة فاتحة الكتاب" لبروفنسال سنة 1920م.

      وكتاب "أصل اسم محمد" لكولين عام 1925م، و"معضلة محمد" لريجي بلاشير، وكتاب "محمد" لمكسيم رودينسون عام 1961م.

      كما ألفوا في الإسلام، مثل كتاب " النُظم في الإسلام" ليدموبين، وكتاب " أخلاق المسلمين وعاداتهم" لغوتييه عام 1931م.

      اهتم الاستشراق الفرنسي كذلك بدراسة المذاهب والفرق الإسلامية، ونذكر مثلا كتاب " نصوص في مذهب الإسماعيلية" لجويار عام 1873م، وكتاب "طابع الفرق في الإسلام" لديموبين عام 1925م. وكتاب "العقيدة الباطنية في الإسلام" لحينون عام 1947م.

      أما في الأدب العربي، فنذكر كتاب " اللغة العربية وآدابها وجغرافيتها" لكاترمير، وكتب ريجي بلاشير التي تكتسي أهمية قصوى في هذا المجال.

  • المحاضرة الرابعة

    • الاستشراق الألماني

      يعود تاريخ أول اتصال بين الألمان والعرب إلى الحروب الصليبية الثانية ما بين 1147 و 1149م.

      أما عن بداية الدراسات العربية في ألمانيا فتؤرخ بوصول مخطوطات بوستل إلى مكتبة أمير منطقة فالز.

      تاريخيا، كان اهتمام الألمان بالثقافة العربية والإسلامية ضعيفا مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى. وكان يتوجب على المهتمين بهذه الثقافة أن يسافروا إلى هولندا مثلما فعل " يوهان إليشمان" الذي عثر في إحدى المكتبات الهولندية على مخطوط لابن مسكويه هو ترجمة لكتاب ليسبس تلميذ سقراط. وأيضا كما فعل " يوهان هاينريش هوتنجر (1620 – 1668) الذي ارتحل هو الآخر إلى هولندا، وهناك سيتعلم الفهرسة العربية وتاريخ الأدب العربي. فكان أول من عرّف بكتاب "الفهرست" لابن النديم. (فوك، 2001)

      ما ميز الاسشتراق الألماني جديته في البحث، حتى أنه في وقت من الأوقات طغت المقاربة الألمانية في الدراسات الاستشراقية.

      أعلام الاستشراق الألماني:

      يوهان جاكوب رايسكه (1774 – 1716)

      يعد رايسكه مؤسس الدراسات العربية في ألمانيا. كما تخصص في دراسة المخطوطات العربية. ونجح في ابعاد الدراسات الاستشراقية من التأثيرات اللاهوتية. (تاج، 2013، صفحة 79 بتصرف)

      يوليوس فيلهاوزن (1844 – 1918)

      تخصص في دراسة التاريخ الإسلامي والفرق الإسلامية. من أعماله: تحقيق تاريخ الطبري. كما ألف كتابا بعنوان "الإمبراطورية العربية وسقوطها" و "الأحزاب المعارضة في الإسلام" و"الخوارج والشيعة" و "تنظيم محمد للجماعة في المدينة"...إلخ (تاج، 2013، صفحة 80 بتصرف)

      ثيودور نولدكه (1836 – 1930)

      يعتبر عميد المستشرقين الألمان. أتقن ثلاث لغات: العربية والسريانية والعبرية. تعلم اللغة العربية في هامبرغ ثم درس في جامعة ليبزيغ وليدن وبرلين. ثم عيّن أستاذا للغات الإسلامية والتاريخ الإسلامي. اهتم بالشعر الجاهلي وبقواعد اللغة العربية. ألف كتابا بعنوان " مختارات من الشعر العربي"، " تاريخ القرآن" حيث تناول فيه ترتيب السور القرآنية. (تاج، 2013، صفحة 80 بتصرف)

      كارل بروكمان (1868 – 1956):

      درس على يد نولدكه، فاهتم بدراسة التاريخ الإسلامي، فألف كتابا بعنوان "تاريخ الشعوب الإسلامية" لكن هذا الكتاب مليء بالمغالطات على الإسلام. كما له كتاب بعنوان "تاريخ الأدب العربي. (تاج، 2013، صفحة 81 بتصرف)

      أنا ماري شميل: (1922 - )

      من أشهر المستشرقين الألمان المعاصرين. بدأت دراسة اللغة العربية في سن الخامس عشر. أتقنت عدد من اللغات الشرقية. اهتمت بدراسة الإسلام بأسلوب علمي موضوعي. (تاج، 2013، صفحة 82 بتصرف)

      خصائص ومميزات الاستشراق الألماني:

      تعتبر المكتبات الألمانية الأغنى بالمخطوطات والمصادر العربية والإسلامية، كما يمتاز الاستشراق الألماني كما قلنا سابقا، بالجدية والموضوعية، وبتنزهه عن الأغراض السياسية والاستعمارية والتبشيرية، فدافعها الأساسي كان "علميا". ويقول بهذا الصدد المستشرق الألماني "رودي بارت": "فنحن معشر المستشرقين عندما نقوم اليوم بدراسات في العلوم العربية والإسلامية لا نقوم بها فقط لكي نبرهن على ضعة العالم الإسلامي؛ بل على العكس نحن نبرهن على تقديرنا الخالص للعالم الذي يمثله الإسلام ومظاهره المختلفة". (المنيع، 2009، صفحة 399)

      ومن مواقف المستشرقين الألمان ما قاله المستشرق " فرتز شتيبات" "الإسلام دين الفكر والعلم والثقافة والعدل والحضارة والتقدم، ولكن المسلمين لم يتمسكوا به، وهم مدعوون لأن يسلموا حتى يصلح حالهم، وتستقيم شؤونهم، ويصبحوا جديرين بحمل الراية من جديد". (المنيع، 2009، صفحة 399)

      يذهب بعض مؤرخي الاستشراق الألماني، أنّ هذا الأخير قد مرّ بمرحلتين؛ فالدراسات الألمانية التي ظهرت ما قبل 1919 كانت أقل براءة.

      اهتم الألمان بالحضارة الإسلامية، ووضعوا القرآن الكريم ضمن اهتماماتهم الأولى، فكانت لهم مساهمات في الدراسات القرآنية.

      لقد اهتم الاستشراق الألماني بطبع القرآن الكريم، فالطبعة الأولى للقرآن الكريم المضبوطة بالشكل قد تمت على يد الألماني " أبرهام هينكلمن" عام 1694م، لكنها تعرضت للانتقاد على يد النصرانيين.

      إلا أنّ أشهر الطبعات فهي طبعة المستشرق "فلوجيل" والتي صارت الطبعة المعتمدة عند المسترقين إلى اليوم. غير أن طبعة فلوجيل هي الأخرى تعرضت للنقد خاصة وأنها قدمت القرآن الكريم في ترتيب السور وأرقام الآيات.

      كما ساهم الألمان بإعداد العديد من الترجمات للقرآن الكريم وقد بلغ عددها 14 ترجمة من أصل 42 ترجمة، وهي أكثر لغة أوروبية تمت الترجمة إليها. ونذكر منها: ترجمة "سالمون شفايجر"، "ليون اولمان" "فريديرش روكرت"...إلخ.

      أما اهم ما نبغ فيه المستشرقون الألمان فكان البحث في "تاريخ القرآن". ويمكن أن نذكر بعض الدراسات: "مدخل تاريخي نقدي إلى القرآن" لغوستاف فايل" و "تاريخ الدول العربية " لفلهاوزن.

      وكتاب " تاريخ القرآن" لنولدكه"، وقد أثنى الكثير من المستشرقين على هذه الدراسة. وقد رسم هذا الكتاب الخطوط الجوهرية لمنهج المستشرقين في الدراسات القرآنية.

      كما اهتم المستشرقون الألمان بفهرسة وتصنيف المخطوطات والمصادر الإسلامية، وقاموا بإعداد قوائم عامة للمراجع الإسلامية. وقد ساهم كارل بروكلمان في كتابه " تاريخ الأدب العربي" في تبويب التراث العربي وفهرسته وتحليله.

      للمستشرقين الألمان أيضا جهود حميدة في تحقيق الكتب العربية وبعث التراث العربي والإسلامي. مثل جهد المستشرق برجشتراسر الذي حقق مجموعة من الكتب: معاني القرآن للفراء، والمشتبه في القراءة للكسائي، وتعليل القراءات السبعة للشيرازي، المحستب لابن جني،....إلخ

  • المحاضرة الخامسة

    • الاستشراق وتاريخ الأدب العربي

      لقد اعتنى الاستشراق بجميع مدارسه بالأدب العربي وباللغة العربية، بل يمكن أن نقول بأنّ اهتمام المستشرقين بالأدب العربي لم يكن أقل شأنا من اهتمامهم بالدراسات القرآنية.

      فبالإضافة إلى العناية بالمخطوطات الأدبية، انكبّ المستشرقون بدراسة الأدب العربي، عبر تاريخه الطويل. وما يبرر هذا الاهتمام هي المكانة التي يحظى بها الأدب في الثقافة العربية، فالحضارة العربية هي حضارة الشعر على نحو خاص، وكان الشعر رافدا من روافدها بالإضافة إلى الرافد الديني.

      أعاد الاستشراق كتابة تاريخ الأدب العربي من خلال عدد كبير من الدراسات الموسوعية التي اتسمت بالطابع المنهجي المنضبط في إعادة اكتشاف هذا التراث الأدبي.

      ومن بين المساهمات المهمة في هذا الحقل ما قدمه المستشرق الفرنسي "ريجي بلاشير" ونظريته الجديدة عن تاريخ الأدب العربي، محاولا الربط بين تطور المجتمع العربي والوقائع الأدبية من خلال كتابه "تاريخ الأدب العربي " في أجزائه الثلاثة.

      أو ما قدمه المستشرق الألماني "كارل بروكلمان" من خلال كتابه "تاريخ الأدب العربي".

      لقد اعتني الاستشراق بالأدب العربي في مناح عدة؛ فقد درس تاريخه، وعصره الأدبية، وتطوره من البدايات إلى ازدهاره ثم انحطاطه، كما اهتم بالظواهر الأدبية، وبأعلامه...إلخ ويرجع السبب في هذا الاهتمام البالغ بالأدب العربي إلى أنه يقدم مادة هامة لفهم الشخصية العربية، وكان لهذا الاهتمام الأثر على الآداب الأوروبية، ثم على العرب أنفسهم الذين اكتشفوا تراثهم الأدبي في مرحلة النهضة من خلال أعمال المستشرقين.

      ويُرجع أحمد سمايلوفيتش سبب اهتمام الاستشراق بالأدب العربي لعدة أسباب منها: صلة الأدب العربي بالإسلام وكتابة القرآن الكريم، وأهميته لدراسة الشخصية العربية وفهمها، وأثره في آداب العالم، ودوره في ظهور المذهب الرومانسي. (سمايلوفتش، 1998، صفحة 491 بتصرف)

      كان اهتمام المستشرقين بالأدب العربي القديم لأنه كان يمثل بالنسبة لكل من يريد دراسة حياة العرب مشكلة رئيسية لأنه لعب دورا في حياتهم قبل الإسلام وبعده. فبعد القرآن الكريم يأتي الشعر الذي نبغ فيه العرب قبل الإسلام عندما كان الشعراء ينظمون شعرهم بلغة شعرية واحدة، ويتبعون قواعدا صارمة، واستمر الوضع إلى حتى أواخر العصر الأموي.

      وبحكم ارتباط الشعر العربي بالعاطفة الإنسانية فقد ترك أثرا بالغا في الأدب الأوروبي، وفي عدد كبير من الأدباء الأوروبيين العظام أمثال والتر سكوت، بيرون، غوته، شيلر، هوجو، فولتير، ديفو، سرفانتيس...إلخ. بل أنه "أحدث ثغرة خطيرة في صروح العرف والتقاليد، وأمكن أن يبعث فيهم الأفكار ويدفع بهم إلى الابتكار، مما أدى بحق إلى انقلاب عظيم في الآداب الأوروبية بأسرها". (سمايلوفتش، 1998، صفحة 498)

      في القرن التاسع عشر ظهرت بعض الدراسات المهمة التي اهتمت بالأدب العربي، وعلى رأسها كتاب "في تاريخ العرب وآدابهم" من تأليف "إدوارد فانديك" و"فيليديس قسطنطين وطبع الكتاب في مطبعة "بولاق" سنة 1892م. ثم تأتي مساهمة "كارل بروكلمان" الذي وضع أسس لحكرة علمية جديدة بكتابة تاريخ الأدب العربي، ويعد كتابه كتابا جامعاً. وكان خطوة جبارة في دراسة الأدب العربي على الرغم من أنه لم يتعمق في دراسته. وكان له الفضل في الدفع بحكرة البحث في الأدب العربي نحو أفاق جديدة، فظهرت أعمال "نولدكه" و "بلاشير" و "مارجليوث". فاهتم بعض المستشرقين بالأدب الجاهلي، وآخرون بنقائض جرير والفرزدق وهو ما اضطلع به المستشرق "انطوني بيفان" الذي حقق شعر الشاعرين فيما يربو ال1102 صفحة. كما تخصص "بلاشير " في الأدب العباسي وتحديدا في شعر "المتنبي" بدرجة لم يسبق إليه أحد من قبل.

       

  • المحاضرة السادسة

    • رجيس بلاشير وموقفه من تاريخ الأدب العربي:

      ينتمي بلاشير (1900 – 1973) إلى جيل من المستشرقين الذين تعلقوا بقراءة التراث الأدبي العربي الإسلامي وفق مناهج فيلولوجي تاريخي، متأثرا بالمنهج العلمي.

      تعلم بلاشير العربية في أثناء دراسته بمدرسة مولاي يوسف بالرباط. في عام 1934 تحصل على شهادة دكتوراه دولة بأطروحة عن المتنبي وأخرى تكميلية ترجم فيها كتاب "طبقات الأمم" لصاعد الأندلسي.

      أولى بلاشير اهتماما بالأدب العربي، وانعكس اهتمامه في دراسته الكبيرة عن المتنبي، وهي التي رسمت له لاحقا معالم الطريق للاهتمام بالشعراء العرب. فألف كتابا عن تاريخ الأدب العربي من بداياته إلى غاية القرن الخامس عشر ميلادي، و"قد أصبح هذا المؤلف، بفضل منهجيته وطريف رؤاه الثقافية والنقدية، مرجعا لا يُستغنى عنه بالنسبة إلى المهتمين بالأدب العربي وتاريخه". (الواد، 2019، صفحة 17)

      أما منهجيته فكانت مثالا للباحث الجاد والموضوعي؛ فقد اعتمد على المنهج الفيلولوجي والتاريخي، ويعني هذا المنهج حب الألفاظ والكلمات والآداب، ويدرس اللغة اعتمادا على الوثائق المكتوبة، أي هو مزيج من النقد الأدبي والتاريخ واللسانيات. أما غاية هذا المنهج فهو "الوصول من الأعمال القديمة إلى أقربها صيغة من صيغها الأصلية، وذلك بالمقارنة بين نسخها المتعددة وما بينها من اتفاق واختلاف وباستعمال جميع الوثائق وآليات البحث والتنقيب". (الواد، 2019، صفحة 24)

      أما المنهج التاريخي فهو يستمد المعرفة من الوثائق بالتثبت من صحتها وسلامتها من التحريف.

      والمنهج التاريخي يعتبر الأعمال الأدبية مثلما هم الأدباء نتاج عصورهم، ونتاج الأوضاع العائلية والاجتماعية في سياق حضاري معين. لذلك "فهو يعتبر معرفة العصور التاريخية التي عاش فيها الأدباء مفاتيح للتعرف إلى شخصياتهم، ويعد التعرف إلى شخصياتهم مفاتيح لمعرفة أعمالهم الأدبية. إنّ المنهج التاريخي، بعبارة أخرى، يُعدّ أدب الأديب مرآة له ولعصره، ويعدهما، في نهاية المطاف، مرآة للإنسانية". (الواد، 2019، صفحة 26)

      ويشترط المنهج التاريخي في دراسته للعصور والأعلام التثبت من الوثائق ونقدها، غير أنّ ما أُخذ على هذا المنهج إهماله للبعد الأدبي في الأعمال الأدبية، فهذه الأخيرة ليست مجرد وثائق فحسب، بل هي وثائق فنية ذات تأثير على النفوس، ما يدفع بالباحث إلى الاهتمام بالذوق الفني، الذي يتعارض مع صرامة المنهج التاريخي، خاصة وأنه يدعو إلى الموضوعية.

      فكيف كانت مساهمة بلاشير في دراسة الأدب العربي القديم؟ سنتوقف عند رسالته التي كتبها عن الشاعر العربي "المتنبي"، حيث استعمل المنهج التاريخي.

      درس بلاشير شعر المتنبي في علاقة الشاعر بعصره (الخلافة العباسية) في أوائل القرن الرابع الهجري، فقدم لمحة تاريخية عن الوضع السياسي والديني والاجتماعي والأدبي، كما ركز على مسقط رأس الشاعر وهي "الكوفة"، وما شهدته من تيارات فكرية نشطت في تلل المدينة، كما أنه تطرق إلى الفتن التي وقعت آنذاك، وعن القرامطة أيضا. (الواد، 2019، صفحة 29 بتصرف).

      وبعد عرضه لعصر الشاعر، انتقل إلى "سيرة" الشاعر، فبحث في أصوله ونسبه وتعلمه، وبحث في تشيعه للقرامطة، وادعائه للنبوة وسجنه ومحاولاته الشعرية الأولى...إلخ (الواد، 2019، صفحة 30 بتصرف)

      كان عمل بلاشير موسوعيا اعتمد على الوثائق، وتناولها بكثير من النقد والتمحيص، وكان يلتجئ إلى نصوص الشاعر لاكتشاف الكثير عن شخصيته، خاصة وأنّ شعر المتنبي يهيمن عليه ضمير "الأنا" ما يجعل قصائده وثيقة الصلة بحياته المضطربة، خاصة وأنّ حياة المتنبي يكتنفها الغموض.

      أما القسم الثاني من دراسته فقد خصصها بلاشير لديوان المتنبي عبر الدراسات الاستشراقية ولدى العرب المعاصرين.

      لقد أعطى بلاشير أهمية لتأثير المحيط والتاريخ في الشعراء، لكنه لا يرى في الأدب مرآة ينعكس عليها الواقع آليا، إنه يرى بأنّ الشعر نفسه يقدم مادة مهمة لفهم تجارب الشعراء، والتغطية على المناطق المجهولة في حياتهم.

       اعتمد بلاشير على المنهج التاريخي لوضع تاريخ للأدب العربي. لقد أصدر مؤلفا ضخما مكونا من ثلاثة أجزاء خصصه لتاريخ الأدب العربي منذ العصر الجاهلي إلى غاية القرن الخامس عشر، لكنه لم يستكمل المشروع بسبب وفاته.

      في مقدمة كتابه "تاريخ الأدب العربي" أشار بلاشير إلى الدور الكبير الذي لعبه المستشرق الألماني "بروكلمان" الذي أنجز عملا موسوعيا عظيما جمع فيه ما كُتب في اللغة العربية، بل اعتبره أهم كتاب في مجاله، ولو أنّه سيخالفه في العديد من المسائل الجوهرية.

      مثلا في تعريفه للفظة الأدب الذي وجده تعريفا واسعا، يشمل حتى النتاجات غير الأدبية، وهو الذي قال أنّ لفظة الأدب لا تعني مُجمل الآثار المكتوبة في اللغة العربية، ويعني بذلك الشعر والنثر الأدبي والآثار الفلسفية والكلامية والفقهية والعلمية. (الواد، 2019، صفحة 36 بتصرف)

      فالأدب يتميز بقصديته الفنية، وبالمكانة التي يتمتع بها الشكل الفني وأساليب التعبير الرشيقة التي تترك في المتلقي أثراً جميلا.

      كما اختلف معه في تحديده للعصور الأدبية، ذلك أنّه اعتمد على المعيار السياسي لتقسيم العصور الأدبية، فقسم العصور على النحو التالي:

      1. عصر ما قبل الإسلام.
      2. عصر النبي (ص) وصدر الإسلام إلى سقوط الأمويين سنة 750م
      3. عصر العباسيين حتى فتح بغداد من قبل المغول سنة 1358م.
      4. العصر العباسي اللاحق ويمتد حتى حملة نابليون على مصر 1798م.

      5. عصر "النهضة" السورية اللبنانية المصرية منذ القرن التاسع عشر إلى أيامنا)). (بلاشير، 1973، الصفحات 8 - 9)

       ويعقب حسين الواد بقوله ((فعوض أن يكون مستوحى من اعتبارات أدبية صرفة، فإنه لا يقيم وزناً، في الحقيقة، إلا لثورات السلالات الملكية، أو الحوادث التي كان لها، دون ريب، أثر في تاريخ الإسلام، بيد أنّ صلتها مع الأدب تبدو غير متوافقة ولا حقيقية جداً. والحق أنه يصعب أن نرى في التحولات السياسية من عصر إلى عصر أثراً مباشراً وآنيا في الأدب يمكن الاعتداد به فاصلا بين عصورها التاريخية)). (الواد، 2019، الصفحات 37 - 38)

      غير أنّه كان على دراية بصعوبة هذا الإنتقال من المعيار السياسي إلى المعيار الأدبي، فما الذي سيكون معيارا لتحديد العصر الأدبي؟

      لقد اختار بلاشير مثلا التركيز على "تطور المجتمع الإسلامي" أكثر من اهتمامه بالحوادث السياسية، كما ركز على المراكز العقلية والتيارات الفكرية التي ظهرت في المجتمعات الإسلامية والتي اوجدت أشكالا أدبية. هذا الموقف جعله ثقف على التحولات الأدبية متداخلة مع التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية، مركزا على مفهومين: الجيل و المراكز الحضارية.

      فمفهوم "الجيل" اعتمد عليه للرد على تقسيم الأدب العربي إلى عصور سياسية، ومما قاله أنّ الفكرة الشائعة تقول بأنّ ظهور الإسلام قد أحدث انقطاعا في تطور الأدب العربي، في حين أنّ الأمر غير صحيح. والحقيقة ((أنّ نزول القرآن، و التغييرات التي طرأت على العالم العربي لم تؤثر تأثيرا واقعيا او ظاهريا على النتاج الأدبي إلا بعد أربعين عاماً من وفاة الرسول (ص))). (الواد، 2019، صفحة 43)

      ويقترح بلاشير تاريخين لتحديد العهد الأدبي: الأول هو عام 50 هـ/ 670م يحدد اختفاء جيل شهد ضعف وانهيار قيم الوثنية العربية، وصعود القيم الإسلامية وانتصارها. والثاني هو عام 107 هـ/ 725م يعين نهاية الجيل المذكور، ودخول نزعات جديدة، تؤذن بتطور الشعر وولادة "النثر الفني". والمغزى أنّ ((التغيرات السياسية لا تعطي أثرا مباشرا في الناس، وإنما يظهر تأثيرها لاحقا في الجيل الذي وُلد مع حصولها)). (الواد، 2019، صفحة 45)

      أما مفهوم "المراكز الحضارية/ الثقافية " فقد كان له الأثر الكبير في تاريخ الأدب كما تصوره بلاشير، فالانصراف عن المدينة كان واقعة ذات أهمية قصوى في تطور الأشكال الأدبية، وتبعا لهذا التصور، فقد ميّز بلاشير بين شعراء البادية والحواضر.

      نشوء الكتابة العربية:

      من بين القضايا التي درسها بلاشير ظاهرة نشوء التدوين في الثقافة العربية. وحسب المصادر الإسلامية فإنّ أول من اخترع الخط العربي هو "مرار بن مرة الأنباري.

      تحقيق النصوص الشعرية:

      يرى بلاشير أنه قبل الشروع في دراسة الشروط التي بها يتم "تحقيق الشعر الجاهلي" فلابد من الإجابة عن سؤالين: كيف كان ينظم الشاعر؟ وكيف كانت تشيع آثاره بين الناس؟

      يعترف بلاشير أن هذا الجانب من الدراسة تكتنفه الكثير من الصعوبات، خاصة وأنه من الصعب العثور على الآثار الشعرية في حالتها الأصلية. ومن بين الإشكالات المطروحة: هل كان الشاعر العربي الجاهلي يدون أشعاره؟ في ظل هيمنة الثقافة الشفوية التي هي الأصل في الثقافة العربية، وما هو معلوم أنّ ((الرواية الشفوية كما هي اليوم خاضعة للمفاجآت، والصدف وجموح الأهواء، وتقلبات الحوادث على القبيلة التي تنقل الأخبار والشعر)). (بلاشير، 1973، صفحة 121)

      هذا أدى إلى التشكيك في صحة الشعر الجاهلي، بسبب صعوبة معرفة عناصره الأصلية وعناصره الدخيلة. ففي عام 1864م تناول المستشرق نولدكه لأول مرة موضوع مدى صحة الشعر الجاهلي، انطلاقا من المبدأ التالي: القصائد المروية غير موثوق بصحتها. فالشعر الجاهلي لم يدون إلا في منتصف القرن الثاني للهجرة.

      أليست الإشارات إلى أديان العرب في الشعر الجاهلي نادرة؟ يتساءل بلاشير. بل أن هؤلاء الشعراء الجاهليون هم أقرب إلى التوحيديين، بل هم على علم بالدين الإسلامي وقصص  القرآن.

  • المحاضرة السابعة

  • المحاضرة الثامنة

    • آليات تحليل الخطاب الاستشراقي من خلال كتاب " الاستشراق " لإدوارد سعيد

       الإشكاليات المنهجية:

      ما يميّز كتاب " إدوارد سعيد " في تحليله للاستشراق هي تحديده للمداخل الإشكالية التي تواجه الباحث المتخصص في دراسة الاستشراق، فسمة كتابه " الاستشراق" هي الرسم المنهجي الدقيق الذي وضعه، ما منح للكتاب قيمة معرفية مضاعفة.

       لقد أكّد سعيد، أنّ دراسة الاستشراق ليست أمرا يسيرا، بل أنّ الاستشراق حقل ملغم، يصعب الولوج إليه دون مواجهة مصاعب منهجية ومعرفية وإيديولوجية.

       أوّلاً، ثمّة عامل شساعة حقل الاستشراق، الأمر الذي يشكّل تحديا حقيقيا يصعّب على الباحث الإحاطة بالمادة الاستشراقية في مجملها. أمّا العامل الآخر، فهو حساسية الموضوع بالنسبة للذات الباحثة؛ إذ أنّ الاستشراق كان دائما حقلا تجاذب بين إرادتين: إرادة المعرفة وإرادة الايديولوجيات.

      تكتسي المقدمة التي كتبها سعيد لكتابه اهمية بالغة لأجل فهم الإطار المنهجي لهذا العمل الرائد، ويمكن عرض أهم ما ورد فيها من إضاءات منهجية، ومن قضايا إشكالية:

      1. صعوبة تحديد " نقطة البداية " و الانطلاق في البحث. فمن أين يبدأ الباحث في دراسته لظاهرة في حجم " الاستشراق "؟ يتحدّث " لويس ألتوسير " عن مفهوم " الاشكالية " باعتبارها منطلق أي بحث في العلوم الإنسانية. فما هي إشكالية إدوارد سعيد في كتابه " الاستشراق "؟ ما الذي يمثّل سؤالا أساسيا في مشروع نقد الثقافة الأوروبية الحديثة من النصف الثاني من القرن الثامن العشر إلى القرن العشرين؟
      2.  " تحديد النصوص والمؤلفين  والفترات التي تغطي الاستشراق". إلى أي مدى يمكن الإحاطة بكل ما أنتجه الاستشراق الأوروبي طيلة هذه القرون؟ وهنا اهتدى سعيد إلى طريقة تتمثّل في تخفيض حجم المادة إلى مستوى يسهل عليه معاجلة الاستشراق، منها: التركيز على الخبرة البريطانية والفرنسية والأمريكية، والتركيز على العرب والمسلمين كموضوع لأنظمتها التمثيلية. ومع ذلك، اعترف بالتقصير الذي وقع فيه، لما أقصى الدراسات الشرقية التي قام بها الايطاليون، والألمان والروس. وكذا استبعاده لمناطق أخرى من الشرق مثل الهند واليابان والصين.

      فرضية كتاب الاستشراق:

      إنّ الفرضية الأساسية في كتاب " الاستشراق ":  أنّه ما من مجال علمي مهما بلغت درجة موضوعيته  وعلميته إلاّ وكان خاضعا لقيود ومؤثرات يفرضها عليه المجتمع، وتفرضها التقاليد الثقافية والمعرفية والظروف التاريخية، وأنّ دعوات الموضوعية العلمية والنزاهة والحياد ليست أكثر من أساليب لإخفاء حقيقة إرتهان المعرفة بالمؤسسات في المجتمع سواء أكانت ذات طابع مدني، أو سياسي، أو إجتماعي، أو إقتصادي أو حتى ديني، تنتج مناهجها وموضوعاتها و نتائجها بحسب أهداف تسطّر لها مسبقا، تخدم على نحو ما مصالح المجتمع، وتمدّه بالقوّة اللازمة حتى يتبوّأ درجات من السلطة.

      ولأنّ مجال بحث إدوارد سعيد هو «الاستشراق» فإنّه وجد فيه ذلك الخطاب النموذجي الذي أبان عن هذه العلاقة بين المعرفة والسياسة، وبين وظيفة العالم والخبير والمفكر والمؤرخ والفيلولوجي والأنثروبولوجي والديبلوماسي والأديب والفنان الأوروبي، بإرادة مجتمعه الأوروبي في التوسّع والسيطرة، وفرض قوته على الأصقاع البعيدة من العالم. من هنا، وجد سعيد في الاستشراق ما يكشف عن الطبيعة الهيمنية للثقافة الأوروبية، ونزوعها إلى السيطرة والتدجين والإقصاء.

      يؤطّر الاستشراق – كخطاب معرفي غربي عن الشرق - مرحلة تاريخية حاسمة في التاريخ الأوروبي، والتي تميّزت بالتوسع الإستعماري ابتداء من القرن الثامن عشر، وبالانفتاح على الجغرافيات البعيدة، لا بهدف استكشافها فحسب، بل بهدف السيطرة عليها، ليبرز علاقة الثقافة الأوروبية بالآخر، وكيف أنها تنبني على إرادة القوة، والسيطرة عليه، وجعله تابعا أبديا له، ومن هنا، يقول الباحث الجزائري " جمال مفرج " في كتابه " المعرفة والقوة، نحو طريقة علمية للهيمنة" إنّ "جميع المظاهر المميّزة للثقافة الغربية تعكس في نظر سعيد، هدفا واحدا هو التحكّم والسيطرة الكاملة نحو «الدمج» الكامل و «التدجين»، بحيث يصبح الشرق تابعا تماما للغرب المسيطر".

      إنّ القوّة الكامنة في عمل إدوارد سعيد هي أنّه لم يقدّم سردا تاريخيا يتتبع فيه تطور خطاب الاستشراق في أوروبا، ولم يغرق في سيل من التعريفات التي قُدمت عن الاستشراق في مختلف مجالاته، لكنّه حاول استنطاق مناطق الصمت في هذا الخطاب منذ أن تبنين في أنظمة منهجية صارمة في المرحلة الوضعانية وصولا إلى القرن العشرين مع بداية مرحلة جديدة تميّزت بانبثاق وعي مضاد له، وهي الأمداء التي لم يبلغها أحد من قبله على النحو الذي أبانه في كامل مشروعه النقدي، مبتعدا عن المقاربة التقليدية التي، كما يقول الباحث " وحيد بن بوعزيز " " تنطوي على تتبع مؤامرات الغرب و تفحص نوايا المستشرقين، بتصنيفهم إمّا منصفون أو مُجحفون، بل حاول أن يضفي طابعا جديدا على موضوعه، مستعينا في ذلك بأهم الأفكار المعاصرة له، نقصد الخلفيات المعرفية المعدودة من حقول ما بعد حداثية، مثل مدرسة فرانكفورت والنسق المعرفي الضخم الذي أرسى قواعده ميشيل فوكو".

       وتتمثّل هذه المقاربة الجديدة في إبراز الطابع السياسي والعقائدي المتخفي وراء الأنظمة المعرفية للاستشراق، لا كخطابات تنتج الحقيقة عن الشرق، بل كخطابات تأويلية تستند إلى حقيقة مطلقة وهي أنّ الغرب هو قوة عظمى، وأنّ ما دونه مجرد ظلال تابعة، خاضعة لسلطته وسجينة للصورة النمطية التي فُرضت عليها.

       إذ لا توجد معرفة دون أن تكون في خدمة سلطة سياسية، كما أنّ السلطة لا تتقوّى أركانها إلاّ لمّا تتعاضد بالمعرفة، ووفق هذه الجدلية، حاول سعيد أن يحلّل هذا الترابط بين المعرفة والسلطة داخل الخطاب الاستشراقي، كإشكال مركزي في كتابه «الاستشراق».

      اختراع الشرق:

      تمثّل هذه الجملة التي قالها إدوارد سعيد « لما كانت المعرفة بالشرق قد تولّدت عن القوة، فإنّها تؤدي من زاوية معينة إلى خلق الشرق، والشرقي، وعالمه.» أساسية لفهم تصوره لوظيفة الاستشراق.

      إذ يتحوّل الشرق في الخطاب الاستشراقي إلى حقيقة مختلقة، أي إلى جغرافيا خيالية. ولعل المصطلح في حد ذاته، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الطابع العلمي للاستشراق، يبرز المدى الذي بلغته المعرفة الغربية من تحريف للحقيقة الموضوعية، ومن تحيّز أيديولوجي هدفه هو الإبقاء على قوة أوروبا، وعلى ضعف الشرق.

      كلّ حقيقة هي تأويل لها، ما يجعلها تتجرّد من جوهرها الموضوعي لتغدو فقط مجرد موضوع إدراك وتفسير وتأويل. يقول سعيد: « وهكذا فإنّ كلّ تفسير وكل بناء يُقام للشرق هو إذن، إعادة تفسير له وإعادة بناء.»

      لمّا حلّل " إدوارد سعيد " خطابات بعض السياسيين الأوروبيين أمثال " بلفور " و "كرومر " عن الشرق، لاحظ كيف أنّ الحديث عن الشرق يكون من خلال لازمة أساسية وهي " المعرفة ". (( إننا نعرف حضارة مصر ))، و (( ونعرف تاريخها ))، و (( نحيط بها إحاطة أوثق وأشمل )).

      وبالمقابل، فإنّ الحديث عن " معرفة شاملة وكاملة " بالشرق " كان ملازما أيضا للفظة " السيطرة "، و" الهيمنة "، بما يجعل اللفظتين " المعرفة / القوة  " متلازمتين بشكل عضوي.

      إنّ المقصود بـ" المعرفة " في هذا السياق، هو استقصاء تاريخ حضارة الشرق نشأة وتطورا، والاطلاع العميق والشامل على أحوال مجتمعاته. وهي أيضا تعني " القدرة " على المعرفة، التي تقوم على حقيقة " الإرادة " في تحصيلها.

      يقول إدوارد سعيد (( فالمعرفة تأتي بالسلطة، وزيادة السلطة تتطلّب زيادة المعرفة، وهكذا دواليك في جدلية من المعلومات والتحكّم تزداد فائدتها باطراد. )). على ضوء هذه الجدلية أقام تحليله للاستشراق، كخطاب أنتجه الأوربيون في مرحلة التوسّع الاستعماري، والتنافس الحامي بين الامبراطوريات الاستعمارية على مناطق من العالم. هذا المنظور، أبان عن قراءة استراتيجية في الخطاب الثقافي الأوروبي على ضوء خلفياته التاريخية، فأكبر ما ميّز القرون الثلاث الأخيرة ( 18، 19، 20 ) هو الاستعمار، والتنافس الأوروبي على مناطق النفوذ، إلاّ أنّ ما يجعل هذا الاستعمار مختلفا عن التجارب السابقة هو أنّه سار جنبا إلى جنب مع التطورات المعرفية والعلمية والتكنولوجية التي دعمته وقوّت أركانه، وطوّرت أساليبه في السيطرة والهيمنة.

      لقد أبرز سعيد في كتابه " الاستشراق " ضرورة دراسة الاستشراق باعتباره أيضا نظاما تمثيليا صارما للآخر الشرقي؛ فالفكرة الأساسية التي ناقشها هي أنّ الشرقيين عاجزين عن تمثيل أنفسهم، وبذلك توجّب تمثيلهم من قبل الآخرين. ولقد رأينا أنّ التمثيل يرتبط بشرطين أساسيين: المعرفة والسلطة.

      لقد ناقش إدوارد سعيد في الصفحات الأخيرة من كتابه " الاستشراق " وفي كتابه " تعقيبات على الاستشراق " صورة المسلم والعربي " في الثقافة الأمريكية، وتحديدا في وسائل الإعلام الامريكية؛ إذ أضحى الإسلام يشكّل خطرا على الغرب، وتحديدا على المصالح الأمريكية، وعلى الرغم من أنّ العلاقة بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي تضرب عميقا في التاريخ البعيد بين المنظومتين الحضاريتين، إلاّ أنّ السياقات الجديدة قد أحيت تعصبات تقليدية بين الطرفين، لكن بوسائل جديدة، دخل فيها الإعلام كطرف مهم وخطير في حرب الصورة، فالصورة الإعلامية حلّت محل الصورة التشكيلية، أو محل النص الأدبي. وهذا طبعا لا يعني أنّ الأدب أو الفن التشكيلي قد أُزيحا تماما من دورهما كأنظمة تمثيلية رمزية، لكن السلطة التي اكتسبتها وسائل الإعلام جعلت من خطاباتها التي تصدر منها ذات تأثير غائر في النفوس والعقول، وفي السياسات والعلاقات بين الدول والثقافات.

      لقد تساءل سعيد: كيف مُثّل العربي في الثقافة الأمريكية؟ لقد لاحظ أنّ الإعلام الأمريكي قد اختزل العربي في " زيّ " معيّن، وبعد وقوع حرب 1967 بين القوات العربية وإسرائيل، طرأت على صورته تحولات جذرية، وهي أنه كان يُصوّر في هيئة رجل من الرُحل راكبي الجمال في فضاء صحراوي قاحل، إلى صورة كاريكاتورية ساخرة تُجسّده في صورة الإنسان العاجز ذي القابلية على القهر.

      وفي عام 1973 عادت صورة العربي للظهور لكن بملامح اكثر خطورة، فصوّرته وسائل الإعلام في صورة شيخ عربي يقف خلف مضخة بنزين، بعد الأزمة البترولية التي تسبّب فيها العرب بعد قرارهم وقف تصدير البترول إلى الغرب الأمر الذي خلق أزمة نفطية هدّدت اقتصاديات الدول الغربية. لقد ظهر العربي بمثابة " مشكلة " ، وبمثابة خطر يتهدّد وجود إسرائيل ووجود الغرب ذاته.

      وانطلاقا من هذه التعميمات التي غرضها هو ازاحة الحقيقة عن موضعها على حساب فرض صورة عن شخصيات منمطة تبثّ الرعب و الاشمئزاز في النفوس، لكن مع ضرورة إبراز الطرف القوي في كلّ هذه اللعبة؛ فكون العرب والمسلمين موضوعا لأنظمة التمثيل الغربية، وبأسلوب استفزازي، فإنّ ذلك يعزّز قوّة الغرب في مقابل الضعف الأبدي للآخر، فالعرب والمسلمون يصورون بعناية فائقة بأنهم (( عاجزون عن تمثيل انفسهم، ويتوجّب بالتالي تمثيلهم من قِبل آخرين يعرفون عن الإسلام أكثر ممّا يعرف الإسلام عن نفسه.)) ثمّ ينتهي سعيد إلى النتيجة التي تشكّل أساس نظريته النقدية على خطاب الاستشراق ككل: (( وأشهد أنّ هذا ليس بالعلم ولا بالمعرفة أو الفهم، إنّه إعلان قوة وزعم بالسلطة شبه المطلقة، وهو يتأسّس من منطلق العنصرية، ويجري الترويج لقبوله بصورة نسبية من جانب جمهور مستعد مسبقا للإصغاء إلى حقائقه الاستعراضية. ))

      ويصف سعيد هذه المواقف بـ " الجهل المنظّم " المنحاز للمرجعية الاستعمارية بدل الاستفادة من المناهج الجديدة أو الاقتراب من الكتابات التي تظهر من حين إلى آخر في العالم الإسلامي من أجل زحزحة هذه التنميطات.

       

      والوداعة بين نساء الحريم، وبين تصوير نساء الحرملك في صور خليعة.

      لقد صورت نساء الحريم مدمنات على التبغ " وبحلول سبعينات القرن التاسع عشر، أصبح استخدام لفائف التبغ أمرا شائعا، وكان تدخين النرجيلة – المعروفة بالانكليزية باسم "هبل – ببل" [...] لافتا للنظر أيضا". ص27.

      ومن أشهر اللوحات التي تبرز اهمية التدخين عند الشرقي لوحة " مدخّن الحشيش" لإميل برنارد 1900، تبين اللوحة استخدام المخدرات في الشرق.

      من مواضيع هذه اللوحات ظهور الطيور، ومن انواعها الببغاء، اللقلق، الطاووس، ومن الحيوانات القرود، الغزلان، اما الكلاب فكانت لا تظهر في اللوحات لأنها ممنوعة وفقا للشريعة الإسلامية.

      كما رسمت نساء الحريم وهن يعزفن على الآلات الموسيقية، منها المندولين. وكثيرا ما يرافق العازفات مجموعة من الراقصين وممثلي الايماء.

      لقد صور عالم النساء كفضاء مغلق، غرف مغلقة، حدائق مسيجة، لكن في المقابل بعض الفنانين الايطاليين رسموا نساء شرقيات في الأسواق والبازارات؛ فقد صوّر "لورتي" في لوحته " جولة حول العالم" كيف أنّ السيدات السوريات في ثمانينيات القرن التاسع عشر كن يقضين ساعات في المحال التجارية" (ص34)

      ومن بين الموضوعات الأخرى، رسم نساء شمال إفريقيا يستحمن في الانهار، أو البرك او الوديان، ومن بين الرسامين "ايتيين دينيه " الذي كان مولعا برسم نساء سيلعبن بسعادة في الماء، وهن في كامل عريهن.

  • مصادر المقياس