المنهج والعلم في دراسة الأدب: حدود العلاقة ومآزقها الممكنة.
عادة ما نتعامل مع البحث العلمي في بعده الشكلي والتقني؛ كأن نقدم للطلبة ما الذي يجب أن يقوموا به لأجل كتابة بحث جيد، من الغلاف وصولا إلى الفهرس والملخص آخر المذكرة. لكن الغائب في كل ما يُقدّم لهم هو المداخل الابستيمولوجية أو الإشكاليات المعرفية الكبرى التي طرحها المفكرون والفلاسفة والعلماء ودارسو الأدب منذ أن بدأت فكرة تطبيق المناهج العلمية في الدراسات الإنسانية.
ينبغي بداية أن نعرف تاريخ العلاقة بين العلوم الإنسانية والمناهج العلمية، وما هي أهم القضايا التي ناقشها المفكرون والفلاسفة. أما عن الأسئلة التي قد يطرحها أي باحث في هذا السياق: متى بدأت فكرة المناهج العلمية تغزو الدراسات الإنسانية، والأدبية على نحو خاص؟ وهل نجحت تلك المناهج في تطوير هذه الدراسات؟ وكيف يُمكن التوفيق بين الأدب والعلم من منظور هذه المناهج العلمية؟
أهمية مثل هذه المداخل الإشكالية تكمن في أنها تخلق السياقات المناسبة لطرح الأسئلة الأساسية، والسؤال هو محرّك المعرفة، وكما قال الفيلسوف الألماني ( هانس جيورج غادامير): ((إنّ البحث الذي لا يثير مشكلات (إبستيمولوجية) خاصة فهو غير جدير بالتشجيع)).[1]
والبحث العلمي هو في أساسه وضع المعرفة أمام السؤال والشكّ، لأنّ الحقيقة ليست معطى مباشر، تنزل من جهة غيبية مثل الوحي أو الإلهام.
المنهج العلمي والحقيقة في العلوم الإنسانية:
لا تخلو الإجابة عن هذا الإشكال دون الاعتماد على مبدأ المقارنة بين العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية.
سنبدأ أولا بطرح مجموعة من الأسئلة:
كان (غادامير)، وغيره من الفلاسفة، قد طرح هذه الأسئلة وغيرها في كتابه الأهم (الحقيقة والمنهج)؛ ويُعدّ هذا الكتابُ من أهدمّ كتابين أو ثلاثة مما كُتب عن الفلسفة والدراسات الإنسانية في القرن العشرين، وقد ألّفه (غادامير) في الستين من عُمره، أي هو خلاصة خبرة طويلة في القراءة والتعليم والتفكير.
أ – المنهج:
عندما ظهر مفهوم (المنهج) كان الغرض منه هو التمييز بين (العلم) و (اللاعلم)، وفق آليات عديدة، منها آلية الشك. وقد ارتبط المنهج بمشكلة (تقدم العلوم) في القرن الثامن عشر، واعتبره الفيلسوف (كارل بوبر) أساسيا لتقدم المعرفة.
تاريخيا، يُعتبر (فرانسيس بيكون) واضع أسس (التفكير العلمي الحديث) باعتماده على (المنهج التجريبي)؛ ويقوم هذا المنهج على ((التحقق التجريبي من المعلومات المجمعة، بتصنيفها ومقارنتها ببعضها البعض)).[2]
ب -العلم:
يُعرّف (العلمُ) بأنّه (المعرفة المنسقة) أو (المنظمة). يقوم على مبادئ جوهرية، وهي: الملاحظة، والتجربة. ويهدف إلى صياغة القوانين التي بها تتم تفسير الظواهر الطبيعية.
ج-البحث:
أما البحث فهو (الطلب) و (التنقيب) و (الاستقصاء) و (التفتيش). وهو ((استقصاء دقيق، يهدف على اكتشاف حقائق وقواعد عامة، يُمكن التحقق منها مستقبلاً)).[3]
نلاحظ من خلال هذه المفاهيم أنّ تطور العلوم التجريبية والدقيقة جاء من خلال تطبيق المبادئ العلمية، التي مكنتها من بناء معارف كونية وقواعد عامة عن الظواهر الطبيعية المختلفة.
وبالنظر إلى النتائج التي حققتها العلوم التجريبية، ظهرت الحاجة إلى نقل مناهجها إلى حقل الدراسات الإنسانية. إذ كان التفكير العلمي والمنطقي، الذي رافق تطور العلوم الإنسانية في القرن التاسع عشر، محكوماً كليا بنموذج العلوم الطبيعية. كان الفيلسوف (جون ستيوارت ميل) من المفكرين الذين دافعوا عن إمكانية تطبيق "منطق الاستقراء" على العلوم الإنسانية / العلوم الأخلاقية.
إلاّ أنّ العلوم الإنسانية كانت توصف بأنها "علوم غير دقيقة"، ما يجعل معنى لفظة "العلم" في سياق هذه العلوم يحمل "دلالة سلبية".
لم يكن تاريخ العلوم الإنسانية على نفس وتيرة العلوم الطبيعية، فهو تاريخ متقطع، قد تحدث فيه طفرات معرفية من حين إلى آخر.
لكن من الخطأ الاعتقاد بأن الاهتمام العلمي بالقضايا الإنسانية والإجتماعية هو وليد العصور الحديثة فقط، بل على العكس من ذلك، فقد كان علم المجتمع في فترات من الأزمنة القديمة أكثر تقدما من العلوم الطبيعية، ونستشهد بالمرحلة اليونانية.
لقد تطوّرت العلوم الإنسانية في العصر الحديث نتيجة لصعود النزعة العلمية وتأثرها بها، بحيث كانت العلوم الطبيعية والتجريبية والرياضية هي علوم نموذجية، نجحت في بناء نظاما علميا صارماً، وذات نجاعة في تفسير الظواهر الطبيعية، وصياغة قوانينها. وكان هدف هذه العلوم هو التحكم في الطبيعة والسيطرة عليها، والتنبؤ بها. يقول (صلاح قنصوه): ((وللعلم، على هذا النحو، صورتان كما يقول "برنال"، الأولى صورة "مثالية" يبدو فيها العلم معنياً بكشف الحقيقة وتأملها، ومهمته بناء صورة عقلية للعالم تلائم وقائع الخبرة. والثانية صورة "واقعية" تسود فيها المنفعة، وتتعين فيها الحقيقة وسيلة للعمل النافع، ولا تختبر صحتها إلا بمقتضى ذلك الفعل المثمر))[4].
لقد تمثلت العلوم الإنسانية المناهج العلمية ومبادئها بهدف الوصول إلى الدقة التي بلغتها العلوم الدقيقة في بحوثها. ولو أنّ ذلك قد طرح إشكاليات عديدة، منها الاختلاف الجوهري بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، وهو اختلاف مجالاتهما وأهدافهما. فالمجال الذي تشتغل فيه العلوم الإنسانية هو مجال المعنى الذي يحتاج إلى التفسير والتأويل والفهم، وليس إلى صياغة القواعد والقوانين العلمية الدقيقة.
تدرس العلوم الإنسانية الإنسان في أبعاده الاجتماعية والنفسية والتاريخية والثقافية والعاطفية لذا كان مجالها هو المعنى، الذي يستدعي الفهم لا التعرّف، والتأويل لا التحليل بالضرورة.
ما هو موضوع "العلوم الإنسانية"؟ هو "التجربة" الإنسانية، وهي ذات منابع: فلسفية، فنية/جمالية، تاريخية. وهذه الأشكال من التجارب، تفوق قدرة "المنهج العلمي" على اختبارها. لا يمكن للمنهج العلمي تحليل أو تفسير هذه التجارب بهدف إنتاج معرفة / حقيقة عنها. هذا يعني بأنّ تجربة الفلسفة وتجربة الفن تبرزان الحدود التي يمكن أن يصل إليها المنهج العلمي.
ما تقدمه العلوم الإنسانية هو نمط مختلف من المعرفة، مثلما هو الشأن بالنسبة للفلسفة. لا تهدف هذه العلوم إلى صياغة قانون عام وكلي عن الظاهرة الإنسانية، والسبب هو تغيّر هذه الظواهر بما يجعلها تتجاوز النظريات والقوانين.
ما يشير إليه غادامير هو أنّ المعرفة في العلوم الإنسانية لا تستند إلى العقل فحسب، بل أنّ حدس الباحث (تحدث غادامير عن حدس الفنان) هو أقرب إلى روح المناهج العلمية. وهذا له ما يبرره من جهة أنّ موضوع البحث والذات الباحثة غير مفصولين. وكما أشار في جملة مهمة، فما نعرفه عبر التاريخ هو معرفتنا بذواتنا، وهي نتاج لهذا التاريخ، فاعلة ومنفعلة به.
الفرق بين العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية، حسب لوسيان غولدمان، هو أنّ الظاهرة الطبيعية قابلة لأن تُصاغ في شكل قوانين كلية، بحكم أنها تتكرر. أما جوهر العلوم الإنسانية فهو الذات الفردية – التاريخية التي تنتج معرفتها من خلال مبدأ الاختيار؛ أي أنّ الذات الفردية ترجع إلى ما يخدمها ويتوافق مع مصالحها وذائقتها وقيمها. بالإضافة إلى ذلك، فالواقع الإنساني – التاريخي يتغير من عصر إلى عصر، ومعه تتغير الأذواق والقيم.
[1] )- هانس جيورج غادامير، فلسفة التأويل، تر : محمد شوقي الزين، ص166.
[2] )- نفوسي لمياء مرتاض، إشكالية التنظير في العلوم الإنسانية، دار المناهج للنشر والتوزيع، دط، 2020، 67.
[3] )- محمد بابا عمي، مقاربة في فهم البحث العلمي، دار وحي القلم، ط01، 2014، ص50.
[4] )- صلاح قنصوه، الموضوعية في العلوم الإنسانية، دار التنوير بيروت، ط01، 2007، ص17